كيف يتحقق الاستثمار في رأس المال البشري؟

 يترتب عن الاستثمار في التعليم جملة من العـوائد المتباينة سواء بالنسبة للأفراد أو المجتمعات. وفي هذا الصدد، يُميِز الباحثون في اقتصاديات التعليم ما بين العوائد النقـدية وغير النقـدية. فيما يخص الشكل الأول من تلك العوائد، يسهم التعليم عمليا في رفع مستوى الأجور ومعدلات النمو الاقتصـادي. أما فيما يخص الشكل الآخر منها، يُحسّن التعليم من أوضاع الأفـراد الحياتية، كما أنه يُعزز رأس المال الاجتماعي والسلوكيات، وغير ذلك من العـوائد.

وإليك هذه القصة التي توضح ذلك بشكل بسيط:


"يحكي أحد المعلمين بمنطقة ريفية في السودان، كان يُدَرِّس فى مدرسة للبنات فى الصف الثالث ابتدائي ، وفي كل يوم كان يرى خارج الفصل جنب الشباك بنت مسكينة وجميله تكسوها البراءة وتبيع اللقيمات لامها فى الصباح ، وقد بلغت سن المدرسه لكنها لم تدخلها بسبب الوضع المادى لأسرتها ، فلديها اربعة أخوه صغار ووالدهم متوفى  وهي تسهم مع أمها فى مصاريف معيشتهم ببيع اللقيمات عند المدرسة، فساعدت إخوتها بأن يدخلوا المدرسة  ويكملوا تعليمهم.


كان الأستاذ يشرح للطالبات درساً في الرياضيات و بائعة اللقيمات تتابعه من شباك الفصل وهي بالخارج، ثم سأل الأستاذ الطالبات سؤالاً صعباً وخصص له جائزة ، ولم تجيبه أي طالبة، وتفاجأ بائعة اللقيمات تؤشر باصبعها من خارج الشباك وتصرخ: استاذ استاذ استاذ ، فأذن لها المدرس بالإجابة .. وأجابت وكانت اجابتها صحيحة ... 


منذ ذلك اليوم راهن عليها الأستاذ، فتكفل برعايتها وبكل ما يلزمها من مصروفات مدرسية على نفقته ومن مرتبه ، واتفق مع مدير المدرسة على أن يتم تسجيلها كطالبة بالمدرسة وتشارك بالإختبارات دون دخول الفصل لعدم قدرتها على تحمل مصاريف المدرسة ، وأن يجعلها تبدأ من الصف الثالث كمستمعه لتتعلم ولو الشيء البسيط من التعليم ، واتفق مع جميع مدرسي المواد الأخرى على أن تظل الفتاة تسمتع من الشباك إلى كل الحصص وهي خارج الفصل ، فأجمعوا على الموافقة على مغامرته وأخبر هو والدتها بذلك ، وفرض المدرس على الفتاة أن تترك بيع اللقيمات وتتفرغ للتعليم ويتولى أحد أخواتها البيع بدلاً منها.


وكانت المفاجأة عندما ظهرت نتائج الإختبارات، فقد كانت هي الأولى على المدرسة، وسارت على هذا النهج برعاية الأستاذ وإشرافه اليومي عليها إلى أن  أوصلها إلى صف الأول متوسط.


وهنا فارق الأستاذ السودان للعمل بالخارج، ولم يكن هناك هواتف فى ذلك الوقت لكي يواصل متابعة أخبارها، وقد كبر أحد أخواتها وعمل بعربه كارو لبيع الماء وبقى يصرف عليها، وانقطعت صلتها بالأستاذ لمدة اثنى عشر عاماً.


وبعد غياب إثنا عشر عاماً عاد الأستاذ إلى السودان ، وكان لديه زميل بالمكان الذي كان يعمل فيه وزميله هذا لديه ابن بجامعة الخرطوم كلية الطب، وطلب زميله منه أن يرافقه للجامعة، وأثناء دخوله الجامعة مع صديقه مكث بعض الوقت فى الكافتريا ، فإذا بفتاة تحدق فيه بشوق وقد تغيرت معالم وجهها عندما رأته، وهو لم يعلم لماذا تحدق فيه بهذا التأثر ؟ فسال ابن صاحبه إن كان يعرف هذه الفتاة وأشار إليها خفية، فأجابه: نعم بالطبع إنها بروفيسور تُدَرِّس لطلاب كلية الطب دفعة السنة السادسة والأخيرة …


 ثم سأل الطالب الأستاذ: هو انت بتعرفها يا عمو ؟ قال: لا ولكن نظراتها لي غريبة.

وفجأة وبدون مقدمات جرت الفتاة نحوه، وهي تبكي بحرقة بصوت لفت أنظار كل من كان بالكافتيريا، وظن الجميع أنه والدها ، وأجهشت بالبكاء حتى أغمي عليها ... وتم اسعافها ... وبعد فترة صحت من نوبة الإغماء وتمالكت أعصابها ونظرت إليه وقالت له: ألا تذكرني يا أستاذي؟ انا البنت اللي كانت حطام إنسانة وحضرتك صنعت منها إنسانة ناجحة، أنا البنت اللي حضرتك كنت السبب في دخولها المدرسة وصرفت عليها من حر مالك حتى وصلت إلى ما وصلت اليه وذلك بفضل الله ثم رعايتك واهتمامك وموقفك الإنساني الفريد ، أنا ابنتك فلانة (بائعة اللقيمات ) …


ودعته واللذين معه ومجموعة من الزملاء الى منزلها وأخبرت أمها واخوتها بالأستاذ الإنسان الذي وقف معهم وكان سببا في تغيير مجرى حياتهم.


واحتفلت به الاسرة احتفالا كبيرا وكانت مناسبة فرح كبيرة.

وألقى الأستاذ كلمة قال فيها:

((لأول مرة أحس اني معلم و ..إنسان))


قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ سبأ: 39

وقد ذكر ابن عابدين في تنقيح الفتاوى الحامدية: أنه تلزم على المسلمين كفاية طالب العلم إذا خرج للطلب.


تعليقات

المشاركات الشائعة